فصل: باب جامع الترغيب في الصلاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب جامع الصلاة

381- ذكر فيه مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها قد ذكرنا أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التمهيد وفي كتاب الصحابة أيضا‏.‏

وأما معنى هذا الحديث فمعناه أن حمل الطفلة أو الطفل على عنق المصلي ووضعها ورفعها لا يفسد ذلك كله صلاة المصلي ولا تضر ملامسته لها وضوءه وفي ذلك دليل على أن قول الله تعالى ‏(‏أو لمستم النساء‏)‏ ‏[‏النساء 43‏]‏‏.‏

لم يرد به الأطفال ولا من يلمس بغير شهوة كالأم وسائر ذوات المحارم واللواتي لا ينبغي في لمسهن لذة وقد مضت هذه المسألة في الوضوء مجودة والحمد لله وقد روي عن مالك في ذلك روايتان إحداهما أن ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة وأن مثل هذا الفعل غير جائز عنده في الفريضة رواها أشهب عن مالك وقد روى أشهب أيضا وبن نافع عن مالك أنه سئل عن تأويل هذا الحديث فقال ذلك عندي على حال الضرورة إذا كان الرجل لا يجد من يكفيه‏.‏

وأما لحب الولد فلا أرى ذلك ففي هذه الرواية لم يفرق بين فريضة ونافلة وأجازه للضرورة وحسبك بتأويل مالك في ذلك بهذا الدال على صحة قوله هذا أني لا أعلم خلافا أن مثل هذا العمل في الصلاة المكتوبة مكروه وفي هذا ما يوضح لك أن هذا الحديث إما أن يكون في النافلة أو على ضرورة كما قال مالك وإما أن يكون منسوخا بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها وقد قال بعض أهل العلم إن فاعلا لو فعل مثل ذلك لم أر عليه إعادة من أجل هذا الحديث وإن كنت لا أحب لأحد فعله قال أبو عمر ولو كان هذا الحديث عنده سنة وكان عنده لا مدفع فيه ما قال وإن كنت لا أحب لأحد فعله بل كان ينبغي فعله تأسيا برسول الله ففيه الأسوة الحسنة وقد ذكر أبو بكر الأثرم قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يسأل أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي قال نعم واحتج بحديث أبي قتادة هذا وغيره في قصة أمامة هذه وهذا يحتمل أن يكون الرجل يأخذ ولده مرة أو يدفعه أو يعمل من ذلك عملا لا يمنعه عن إكمال أحوال صلاته وقد أجمع العلماء على أن العمل الخفيف في الصلاة جائز وأن العمل الكثير الذي يبين به ترك الصلاة له لا يجوز وكذلك فهو مفسد للصلاة وقد يستدل على أن حمل الطفل في الصلاة خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يؤمن من الطفل البول لحمله وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن سعيد المقبري عن عمرو بن سليم عن أبي قتادة قال بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر حتى خرج علينا‏.‏

وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فذكر الحديث وبان فيه أن ذلك في الفريضة لا في النافلة ومعلوم أن النافلة منه كانت في بيته لا حيث يراه أبو قتادة ومثله والله أعلم وقد ذكرنا رواية محمد بن إسحاق هذه وحديث الليث وبن عجلان وغيرهم بذلك في التمهيد وذكرنا هناك أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب وحديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والباب عليه مغلق فجئت واستفتحت فمشى ففتح لي ورجع إلى مصلاه‏.‏

وقال أحمد بن حنبل ذكرت أن الباب كان في القبلة قال أبو عمر كانت صلاته تلك في بيته نافلة وذكرت أيضا في التمهيد حديث أنس قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه في الأرض يبسط ثوبه ويسجد عليه وهذا كله يدل على أن العمل القليل في الصلاة مباح وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما سمع وهو في الصلاة بكاء الطفل فتجوز في صلاته وخفف وقرأ بالسورة القصيرة وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد وكان رءوفا رحيما بالصبيان وغيرهم‏.‏

382- وأما حديثه بعد في هذا الباب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ففيه من الفقه شهود الملائكة للصلاة والأظهر أن ذلك في الجماعات ويحتمل الجماعات وغيرها والله أعلم ومعنى يتعاقبون تأتي طائفة بإثر طائفة وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو بين رجلين مرة هذا ومرة هذا ومنه قولهم الأمير يعقب الجيوش والبعوث أن يرسل هؤلاء وقتا شهرا أو شهورا وهؤلاء مثل ذلك بعدهم ليجهز أولئك فهذا هو التعاقب ومعنى الحديث أن ملائكة النهار تنزل في صلاة الصبح فتحصي على بني آدم ويعرج الذين باتوا فيكم ذلك الوقت أي يصعدون وكل من صعد في شيء فقد عرج ولذلك قيل للدرج العرج فإذا كانت صلاة العصر نزلت ملائكة الليل فأحصوا على بني آدم وعرجت ملائكة النهار ويتعاقبون هكذا أبدا وفي الحديث أنهم يجتمعون في صلاة العصر وصلاة الصبح الفجر وهو أكمل معنى من الحديث الذي روي أنهم يجتمعون في صلاة الفجر خاصة وأظن من مال إلى هذه الرواية احتج بقول الله عز وجل ‏(‏وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا‏)‏ ‏[‏الإسراء 78‏]‏‏.‏

لأن أهل العلم قالوا في تأويل هذه الآية تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار وليس في هذا دفع لاجتماعهم في صلاة العصر لأن المسكوت عنه قد يكون في معنى المذكور ويكون بخلافه وقد بان في حديث مالك هذا وهو من أثبتها أنهم يجتمون في صلاة العصر أيضا وهي زيادة لها معنى قصر عنه من لم يأت به من الرواة وقد يحتمل أن يكون ذكر ‏(‏وقرءان الفجر‏)‏ ‏[‏الإسراء 78‏]‏‏.‏

من أجل الجهر بالقراءة فيها لأن العصر لا تظهر فيها القراءة ومعنى وقرآن الفجر أي قراءة الفجر وقد زدنا معنى هذا الحديث بيانا في التمهيد والحمد لله وفي قوله أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ولم يذكروا سائر الأعمال دليل على فضل المصلين من هذه الأمة وأن الصلاة أفضل الأعمال‏.‏

383- وحديثه بعد في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله قال مروا أبا بكر فليصل للناس فقالت عائشة إن أبا بكر يا رسول الله إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس قال مروا أبا بكر فليصل للناس قالت عائشة فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل للناس فقالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا ففيه من الفقه أن القوم إذا اجتمعوا للصلاة فأحقهم وأولاهم بالإمامة فيها أفضلهم وأفقههم لأن أبا بكر قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة بجماعة أصحابه ومعلوم أنه كان منهم من هو أقرأ منه ولا سيما أبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة وبن مسعود وزيد فهذه مسألة اختلف الفقهاء فيها فقال مالك يؤم القوم أعلمهم إذا كانت حالته حسنة وللمسن حق قيل له فأكثرهم قرآنا قال لا قد يقرأ القرآن من لا يكون فيه خير وقال الثوري يؤمهم أقرؤهم فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن استووا فأسنهم وقال الأوزاعي يؤمهم أفقههم في دين الله‏.‏

وقال أبو حنيفة يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة فإن استووا في العلم والقراءة فأكثرهم سنا فإن استووا في السن والقراءة والفقه فأورعهم وقال محمد بن الحسن وغيره إنما قيل في الحديث أقرؤهم لأنهم أسلموا رجالا فتفقهوا فيما علموا من الكتاب والسنة‏.‏

وأما اليوم فيعلمون القرآن وهم صبيان لا فقه لهم وقد قال الليث بن سعد يؤمهم أفضلهم وخيرهم ثم أقرؤهم ثم أسنهم إذا استووا‏.‏

وقال الشافعي يؤمهم أقرأهم وأفقههم فإن لم يجتمع ذلك قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفي به في صلاته وإن قدم أقرأهم إذا كان يعلم ما يلزم في الصلاة فحسن وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل رجلان أحدهما أفضل من صاحبه والآخر أقرأ منه فقال حديث أبي مسعود يؤم القوم أقرؤهم ثم قال ألا ترى أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمرو أبو سلمة بن عبد الأسد فكان يؤمهم لأنه جمع القرآن فقلت له حديث النبي صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر فليصل بالناس هو خلاف حديث أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم ‏!‏ قال إنما قوله عليه السلام مروا أبا بكر فليصل بالناس أراد الخلافة وكان لأبي بكر فضل بين على غيره وإنما الأمر في الإمامة إلى القراءة‏.‏

وأما قصة أبي بكر فإنما أراد بها الخلافة قال أبو عمر معلوم أن الصلاة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إليه لا إلى غيره وهو الإمام المقتدى به ولم يكن لأحد أن يتقدم إليها بحضرته فلما مرض واستخلف أبا بكر عليها والصحابة متوافرون ووجوه قريش وسائر المهاجرين وكبار الأنصار حضور وقال لهم مروا أبا بكر يصلي بالناس استدلوا بذلك على أن أبا بكر كان أحق الناس بالخلافة بعده صلى الله عليه وسلم فارتضوا لإقامة دنياهم‏.‏

وأمانتهم من ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينهم ولم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم من أن يصرح بخلافة أبي بكر رضي الله عنه إلا أنه كان لا ينظر في دين الله بهواه ولا يشرع فيه إلا بما يوحى إليه ولم يوح إليه في الخلافة شيء وكان لا يتقدم بين يدي ربه في شيء إلا أنه كان يحب أن يكون أبو بكر الخليفة بعده فأراهم بتقديمه إياه إلى الصلاة موضع اختياره وأراد به فعرف المسلمون ذلك منه فبايعوا أبا بكر بعده فنفعهم الله به وبارك لهم فيه فقاتل أهل الردة وقام بأمر الله وعدل في الرعية وقسم بالتسوية وسار سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله عز وجل وقد رويت في هذا الباب آثار تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أبا بكر الخليفة بعده ولكنه لم يؤمر بالاستخلاف لتكون شورى والله أعلم منها حديث حذيفة عنه عليه السلام أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ومنها حديث جبير بن مطعم أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن شيء فأمرها أن ترجع فقالت يا رسول الله إن رجعت ولم أجدك كأنها تعني الموت قال فائت أبا بكر وقال بن مسعود كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة لكلام قاله عمر بن الخطاب أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس قالوا نعم قال فأيكم تطيب نفسه أن ينزعه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله قالوا كلنا لا تطيب نفسه بذلك وقد ذكرنا هذه الآثار كلها بأسانيدها في التمهيد وذكرنا الحجة لخلافته وإمامته هناك من الكتاب والسنة واستوفينا القول في فضائله في كتاب الصحابة والحمد لله‏.‏

وأما قول عائشة إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ففيه دليل على أن البكاء في الصلاة لا يقطعها وذكر بن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وبجوفه أزيز كأزيز المرجل يعني من البكاء والبكاء الذي لا يقطع الصلاة ما كان من خوف الله تعالى أو غلبه حزن لا يملكه ضعفا أو عبثا ولا فهم منه شيء من حروف الكلام‏.‏

وأما قوله إنكن لأنتن صواحب يوسف فإنه أراد النساء وأنهن يسعين أبدا إلى صرف الحق واتباع الهوى وأنهن لم يزلن فتنة يدعون إلى الباطل ويصدون عن الحق في الأغلب وقد روي في غير هذا الحديث في النساء هن صواحب يوسف وداود وجريج وقد قال صلى الله عليه وسلم في النساء إن منهن مائلات عن الحق مميلات لأزواجهن وقال ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وخرج كلامه هذا منه صلى الله عليه وسلم على جهة الغضب على أزواجه وهن فاضلات وأراد جنس النساء غيرهن والله أعلم وفي هذا الحديث أيضا من قول حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا قط ما يدل على ضيق صدور بني آدم بما يؤذيهم وأن المكترث ربما قال قولا عاما يحمله عليه الحرج لأنه معلوم أنها كانت لا تعدم من عائشة خيرا وأنها تصيب منها الخير لا الشر وإذا كان مثل هذا في السلف الصالح فمن دونهم أحرى أن يعذر في مثله وبالله التوفيق وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن عائشة قالت والله ما كانت مراجعتي للنبي صلى الله عليه وسلم إذ قال مروا أبا بكر أن يصلي بالناس إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول رجل يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك الرجل أبي‏.‏

384- مالك عن بن شهاب عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني أصحابه إذ جاءه رجل فساره فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذن في قتل رجل من المنافقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهر أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال الرجل بلى ولا شهادة له قال أليس يصلي قال بلى ولا صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين نهاني الله عنهم قد ذكرنا في التمهيد من وصله من أصحاب مالك وأسنده ومن أسنده أيضا من أصحاب بن شهاب واختلافهم فيه عليه وذكرنا طرقه واختلاف ألفاظ ناقليه كل ذلك في التمهيد والحمد لله وفيه من الفقه إباحة المناجاة والتسار مع الواحد دون الجماعة وإنما المكروه أن يتناجى الاثنان فما فوقهما دون الواحد فإن ذلك يحزنه‏.‏

وأما مناجاة الاثنين دون الجماعة فلا بأس بذلك بدليل هذا الحديث وغيره ويحتمل أن يستدل بهذا الحديث على أن الرجل الرئيس المحتاج إلى رأيه ونفعه جائز أن يناجيه كل من جاءه في حاجته وفيه أنه جائز للرجل أن يظهر الحديث الذي يناجيه به صاحبه إذا لم يكن في ذلك ضرر على المناجي أو كان ما يحتاج أهل المجلس إلى علمه وفيه أن من أظهر الشهادة بان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حقنت دمه وحرمته إلا أن يأتي بما يوجب إراقته لما فرض الله عليه من الحق المبيح لقتل النفس المحرم قتلها قال الله عز وجل ‏(‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق‏)‏ ‏[‏الإسراء 33‏]‏‏.‏

وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس يشهد أن لا إله إلا الله دليل على أن الذي يشهد بالشهادة ولا يصلي لا تمنع الشهادة من أراقة دمه إذا لم يصل وأبي من إقامة الصلاة إذا دعي إليها وقد تقدمت أحكام تارك الصلاة وتنازع العلماء فيها في هذا الكتاب وفيه دليل على من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى لم يجز قتله إلا أن يرتد عن دينه أو يكون محصنا فيزني أو يسعى في الأرض بالفساد ويقطع السبيل ويحارب الناس على أموالهم ونحو هذا وإذا لم يجز قتل من يصلي جاز قتل من لا يصلي وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين نهاني الله عنهم رد لقول القائل له بلى ولا صلاة بلى ولا شهادة له لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثبت له الشهادة والصلاة ثم أخبر أن الله عز وجل نهاه عن قتل من هذه صفته وأنه لا يكلف أكثر من أن يقر طاهرا ويصلي طاهرا وحسابه على الله فإن كان ذلك صادقا من قلبه يبتغي به وجه الله دخل الجنة ومن خادع بها فهو منافق في الدرك الأسفل من النار ولا يجوز قتله مع إظهاره الشهادة ويأتي القول في أحكام الزنديق بما للعلماء في ذلك بعد إن شاء الله والرجل الذي سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو عتبان بن مالك والرجل الذي جرى فيه هذا القول هو مالك بن الدخشم وقد أوضحنا ذلك أيضا بالآثار المتواترة في التمهيد وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبعض من قال فيه أنه منافق لا يحب الله ورسوله وما نرى مودته ونصحته إلا للمنافقين لا تقل ذلك فقد قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله واختلف الفقهاء في استتابة الزنديق المشهود عليه بالكفر والتعطيل وهو مقر بالإيمان مظهر له جاحد لما شهد به عليه فقال مالك وأصحابه يقتل الزنادقة ولا يستتابون وسئل مالك عن الزندقة فقال ما كان عليه المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان وكتمان الكفر هو الزندقة عندنا اليوم قيل لمالك فلم يقتل الزنديق ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين وقد عرفهم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قتلهم لعلمه فيهم وهم يظهرون الإيمان لكان ذلك ذريعة إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة أو لما شاء الله غير ذلك فيمتنع الناس من الدخول في الإسلام هذا معنى قول مالك وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي وقد احتج عبد الملك بن الماجشون في قول الزنديق لقول الله عز وجل ‏(‏لئن لم ينته المنفقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجارونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا‏)‏ ‏[‏الأحزاب 60 - 61‏]‏‏.‏

يقول إن الشأن فيهم ان يقتلوا حيث وجدوا ولم يذكر استتابه فمن لم ينته عما كان عليه المنافقون في عمر النبي صلى الله عليه وسلم قتل والله أعلم وبن القاسم يورث ورثة الزنديق منه وهم مسلمون وهو تحصيل مذهب مالك والحجة له أن الزنديق مظهر لدين الإسلام والشهادة عليه أنه يسر الكفر لا توجب القطع على علم ما شهد به الشهود والأصل أن مال كل ميت أو مقتول لورثته إلا أن يصح أنهم على دين سوى دينه وراعى في ذلك الاختلاف في استتابته ومعلوم أنه لو استتيب لثبت على قوله أنه مسلم فلهذا كله لم ير نقل المال عن ورثته‏.‏

وأما بن نافع فجعل ميراثه فيئا لجماعة المسلمين وكلاهما يروي ذلك عن مالك ووجه رواية بن نافع أنه لم يقتل أحدا ولا لمحاربته وإنما قتل للكفر والدم أعظم حرمة من المال والمال تبع له يفيض على أصله وبالله التوفيق واختلف قول أبي حنيفة وأبي يوسف في الزنديق فقالا مرة يستتاب ومرة لا يستتاب ويقتل دون استتابة وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة اقتلوا الزنديق فإن توبته لا تعرف وقاله أبو يوسف‏.‏

وقال الشافعي يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد طاهرا فإن لم يتب قتل قال ولو شهد شاهدان على رجل بالردة فأنكر قتل فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله وتبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره واحتج بقصة المنافقين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم بشهادة ولا بعلمه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشهادة تعصم الدم والمال لقوله صلى الله عليه وسلم فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله وكلهم مع علمه بهم فيما أظهروا إلى يوم تبلى السرائر ويمتاز المؤمن من الكافر وقد أجمعوا أن الزنديق إذا أظهر الزندقة يستتاب كغير الزنديق ودل قوله عصموا مني دماءهم على أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص وأنها تحقن دمه وحسابه على الله وأجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وإلى الله عز وجل السرائر وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل يستتاب الزنديق قال ما أدري قلت إن أهل المدينة يقولون يقتل ولا يستتاب فقال نعم يقولون ذلك ثم قال من أي شيء يستتاب وهو لا يظهر الكفر هو يظهر الإيمان وقد أفردت لحكم المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامهم في مناكحتهم لبنات المسلمين الصالحين المؤمنين كتابا أتيت فيه على معاني المنافقين وكيف أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مناكحه بنات المؤمنين وكيف الحكم فيهم عند السلف والخلف بما فيه الشفاء من هذا المعنى والحمد لله‏.‏

385- مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقد أتينا به متصلا مسندا في التمهيد ولم ينفرد به مالك كما زعم بعض الناس قال البزار لم يتابع أحد مالكا على هذا الحديث إلا عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن زيد بن أسلم قال وليس بمحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه رواه عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر عمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة وليس فيه حكم أكثر من التحذير أن يصلي إلى قبره وأن يتخذ مسجدا وفي ذلك أمر بأن لا يعبد إلا الله وحده وإذا صنع من ذلك في قبره فسائر آثاره أحرى بذلك وقد كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان وذلك والله أعلم مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى في مثل ذلك‏.‏

386- مالك عن بن شهاب عن محمود بن الربيع أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها تكون الظلمة والمطر وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين تحب أن أصلي فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا قال فيه يحيى بن يحيى عن مالك عن بن شهاب عن محمود بن لبيد وهو من الغلط والوهم الشديد ولم يتابعه أحد من رواه الموطأ ولا غيرهم على ذلك وإنما رواه بن شهاب عن محمود بن الربيع لم يختلف عليه أصحابه في ذلك فهو حديث محمود بن الربيع محفوظ لا محمود بن لبيد وفيه جواز إمامه الزائر إذا أذن له المزور لأن السنة الثابتة في حديث أبي مسعود الأنصاري لا يؤمن أحد في سلطانه ولا بيته ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه رواه شعبة والأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن أبي مسعود وعن جماعة من السلف أنهم قالوا صاحب البيت أعلم بعورة بيته فلا يقعد الزائر إلا حيث يشار إليه من البيت وفيه من الفقه إجازة إمامة الأعمى ولا أعلمهم يختلفون فيه وفيه أن من تخلف عن الجماعة أن يجمع بأهله وجلسائه ولم يتخلف عتبان بن مالك عن رسول الله إلا لعذر ومحال أن يتخلف عليه مؤمن إلا لعذر صلى الله عليه وسلم وكذلك الجماعة لا يجوز التخلف عنها لغير جماعة إلا لعذر فإن تخلف لعذر فلا حرج وإن تخلف لغير عذر فقد بخس نفسه حظها في فضل صلاة الجماعة وصلاته ماضية مجزئة عنه وفي هذا الحديث دليل على جواز التخلف عن الجماعة عمدا وهو أيضا معارض للحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا رخصة في التخلف عنها لمن سمع النداء وقد روي أن عتبان بن مالك هذا هو الذي قيل له أتسمع النداء قال نعم قال ما أجد لك رخصة وفي حديث مالك هذا ما يعارض ذلك الحديث وقد مضى في هذا المعنى ما فيه شفاء والحمد لله ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ألا صلوا في الرحال وقد مضى هذا المعنى مجودا والحمد لله وفيه جواز إخبار الإنسان عن نفسه بعاهة نزلت به وليس ذلك شكوى منه بربه لقوله وأنا رجل ضرير البصر وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووطئها وقام عليها وأدخل مالك هذا الحديث بإثر الذي قبله والله أعلم ليبين لك أن معنى هذا الحديث مخالف للذي قبله والتبرك والتأسي بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان وتصديق وحب في الله ورسوله وفي هذا الحديث أيضا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وجميل الأدب في إجابته كل من دعاه إلى ما دعاه إليه ما لم يكن أثما‏.‏

387- وأما حديثه في هذا الباب عن بن شهاب عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى فإنني أظن والله أعلم أن السبب الموجب لإدخال مالك هذا الحديث في موطئه ما بأيدي العلماء من النهي عن مثل هذا المعنى وذلك أن الليث به سعد وبن جريج وحماد بن سلمة رووا عن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره وروى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى ويستلقي فيرى والله أعلم أن مالكا بلغه هذا الحديث وكان عنده عن بن شهاب عن عباد بن تميم خلاف ذلك يحدث به على وجه الرفع والمعارضة‏.‏

388- ثم أردفه في موطئه بما رواه عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك وكأنه ذهب إلى أن نهيه عن ذلك منسوخ بفعله واستدل على نسخه بعمل الخليفتين بعده وهما لا يجوز أن يخفى عليهما ذلك النسخ في ذلك وغيره من المنسوخ في سائر سننه صلى الله عليه وسلم وأقل أحوال الأحاديث المتعارضة في هذا الباب أن تكون متعارضة فتسقط وترجع إلى الأصل والأصل الإباحة حتى يرد الحظر ولا يثبت حكما على مسلم إلا بدليل معارض له والله أعلم‏.‏

389- مالك عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي يطيلون فيه الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم فإن هذا الحديث قد روي عن بن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة وفيه من الفقه مدح زمانه لكثرة الفقهاء فيه وقلة القراء وزمانه هذا هو القرن الممدوح على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن كثرة القراء للقرآن دليل على تغير الزمان وذمه لذلك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منافقي أمتي قراؤها من حديث عقبة بن عامر وغيره‏.‏

وقال مالك رحمه الله قد يقرأ القرآن من لا خير فيه والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان وفيه دليل أن تضييع حروف القرآن ليس به بأس لأنه قد مدح الزمان الذي تضيع فيه حروفه وذم الزمان الذي يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده وفيه أن كثرة السؤال مذموم وأن كثرة السائلين وقلة المعطين لا يكون إلا في زمن مذموم وبضد ذلك مدح قلة السؤال وكثرة العطاء وفيه أن طول الصلاة محمود ممدوح عليه صاحبه‏.‏

وأما من أم جماعة فقد أوضحنا السنة في إمامه الجماعة فيما تقدم من أبواب هذا الكتاب والحمد لله وإذا كان من أتى الصلاة على ما ينبغي فيها محمودا عليها فبضد ذلك ذم من لم يتمها ومن لم يأت بها على كمالها مذموم على ذلك وقد جاء فيه الوعيد الشديد‏.‏

وأما قصر الخطبة فسنة مسنونة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك ويفعله وفي حديث عمار بن ياسر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصر الخطبة وكان يخطب بكلمات طيبات قليلات وقد كره التشدق والتفيهق وأهل العلم يكرهون من المواعظ ما ينسي بعضه بعضا لطوله ويستحبون من ذلك ما وقف عليه السامع الموعوظ فاعتبره بعد حفظه له وذلك لا يكون إلا مع القلة وبن مسعود هذا هو القائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا‏.‏

وأما تبدأة العمل الصالح على الهوى فهو النور والهدى وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا‏.‏

390- مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أنه قال بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل الصلاة فإن قبلت منه نظر في سائر عمله وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله فهذا المعنى قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه قد ذكرناها في التمهيد ومثله لا يكون رأيا وإنما يكون توقيفا فمن ذلك حديث تميم الداري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته رواه حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن زرارة بن أبي أوفى عن تميم وحديث أبي هريرة رواه أبو الحسن البصري عن أنس بن حكيم الضبي قال قال أبو هريرة إذا أتيت أهلك فأخبرهم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أول ما يحاسب به العبد المسلم الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك هذه رواية علي بن زيد ويونس بن عبيد عن الحسن وقد ذكرنا طرقه في التمهيد وهذا عندي معناه فيمن سها عن فريضة ونسيها ولم يذكرها إلى أن مات‏.‏

وأما من ترك صلاة مكتوبة عامدا أو نسيها ثم ذكرها فلم يقمها فهذا لا يكون له فريضة من تطوع أبدا والله أعلم لأن ترك الصلاة عمدا من الكبائر لا يكفرها إلا الإتيان بها لمن كان قادرا عليها هي توبته لا يجزئه غير ذلك وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان بن يزيد قال حدثنا قتادة عن الحسن عن أنس بن حكيم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة يحاسب بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر‏.‏

391- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه قد مضى القول في معناه فيما تقدم من هذا الكتاب عند ذكر حديث الحولاء بنت تويت في باب صلاة الليل‏.‏

392- مالك أنه بلغه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال كان رجلان أخوان فهلك أحدهما قبل أن يهلك صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول عند رسول الله فقال ألم يكن الآخر مسلما قالوا بلى يا رسول الله وكان لا بأس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريكم ما بلغت به صلاته بعده إنما مثل الصلاة كمثل نهر غمر عذب بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقى من درنه فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته وقد ذكرنا في التمهيد أن قصة الأخوين لا يعرفها أهل العلم بالحديث من حديث سعد بن أبي وقاص وقال أبو بكر أحمد بن عمرو البزار لا نعرف قصة الأخوين من حديث سعد بن أبي وقاص بوجه من الوجوه ولم يعرف البزار حديث بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه بذلك رواه بن وهب هكذا بهذا الإسناد مثل حديث مالك سواء وقد يمكن أن يكون مالك أخذه من كتاب بكير والله أعلم أو أخبره به مخرمة ابنه عنه وهو مع ذلك حديث انفرد به بن وهب لم يروه بهذا الإسناد غيره وإنما تحفظ فيه قصة الأخوين من حديث طلحة بن عبيد الله ومن حديث عبيد بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حديث بن وهب عن مخرمة عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه أقوى من بعض الأسانيد عن هؤلاء‏.‏

وأما آخر هذا الحديث مثل الصلوات الخمس كمثل نهر الحديث فهو محفوظ من حديث أبي هريرة وحديث جابر بن عبد الله وحديث أبي سعيد الخدري من طرق صحاح ويروي أيضا مثل الصلوات الخمس من حديث عامر بن سعد عن أبان بن عثمان عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا الأسانيد والطرق لهذه الأحاديث كلها في التمهيد والحمد لله وفي هذا الحديث من الفقه أن الصلوات الخمس ترفع بها الدرجات وتمحى بها السيئات وقد مضى هذا المعنى مجودا من حديث العلاء في باب انتظار الصلاة والمشي إليها وبلغني أن أبا زرعة الرازي قال خطر ببالي تقصيري وتقصير أكثر الناس في الأعمال من الصيام والحج والجهاد والصلة فكبر ذلك علي فرأيت ليلة في منامي كان آتيا أتاني فضرب بين كتفي قال قد أكثرت في العبادة وأي عبادة أفضل من الصلوات الخمس في جماعة‏.‏

وأما النهر الغمر فهو الكثير الماء والدرن الوسخ ويدل هذا الحديث والله أعلم على أن العذب من الماء أشد إنقاء للدرن كما أن الكثير أشد إنقاء من اليسير وهذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلي يخبر بأن صلاته تكفر عنه سيئاته وهذا محمول عندنا على اجتناب الكبائر وقد أوضحنا هذا المعنى في غير موضع من كتابنا هذا والرواية المحفوظة في الموطأ وغيره يبقي بالياء‏.‏

393- مالك عن عطاء بن يسار أنه كان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معك وما تريد فإذا أخبره أنه يريد بيعه قال عليك بسوق الدنيا وإنما هذا سوق الآخرة ففيه أن ذلك الزمان كان فيه من عوام أهله من يبيع ويشتري في المسجد ولكنه كان فيه من ينكر ذلك وكان عطاء بن يسار منهم ولا يزال الناس بخير ما أنكر المنكر فيهم ولم يتواطؤوا عليه فإن تواطؤوا عليه هلكوا وكان عطاء بن يسار فاضلا قاضيا واعظا من حملة العلم ورواة الثقات‏.‏

وأما قوله في المسجد أنه سوق الآخرة فمأخوذ من قوله عز وجل ‏(‏تجرة لن تبور‏)‏ ‏[‏فاطر 29‏]‏‏.‏

وهي أعمال البر الزاكية ولا عمل أفضل من الصلاة وانتظارها ولزوم المساجد من أجلها حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مطر بن محمد الأسدي الكوفي قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجل يبيع ويشتري في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم الرجل ينشد الضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك وقد ذكر الله تعالى المساجد بأنها بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وأن يسبح له فيها بالغدو والآصال فلهذا بنيت فينبغي أن تنزه عن كل ما لم تبن له‏.‏

394- مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى البطيحاء وقال من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة هذا الخبر عند القعنبي ومطرف وأبي مصعب عن مالك عن أبي النضر عن سالم بن عبد الله عن بن عمر أن عمر بن الخطاب بنى رحبة في المسجد الحديث ورواه طائفة كما رواه يحيى فقد عارض هذا الخبر بعض الناس بحديث أبي هريرة أن حسان بن ثابت لما أنكر عليه عمر إنشاده الشعر في المسجد قال قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك فسكت عمر وهذا محمله عندي أن يكون الشعر الذي ينشد في المسجد ما ليس فيه منكر من القول ولا زور وحسبك ما ينشد على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما ما كان فيه من الفخر بالآباء الكفار والتشبيب بالنساء وذكرهن على رؤوس الملأ وشعر يكون فيه شيء من الخنا فهذا كله لا يجوز في المسجد ولا في غيره والمسجد أولى بالتنزيه من غيره والشعر كلامه موزون فحسنه حسن وقبيحه قبيح وقبيحه لا يزيده الوزن معنى وقد قال صلى الله عليه وسلم إن من الشعر لحكمة وروى الليث بن سعد قال حدثني بن العجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تتناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء في المسجد ذكره أبو داود وغيره حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا أبو صالح قال حدثنا الليث فذكره بإسناده وعلى ما ذكرنا ترتيب الاثار في إنشاد الأشعار في المسجد وبالله توفيقنا إلا أن الشعر وإن كان حسنا فلا ينبغي أن يكون إنشاده في المسجد إلا غبا لأن إنشاد حسان كذلك كان‏.‏

وأما الشعر القبيح وما لا حكمة فيه ولا علم فينبغي أن تنزه المساجد عن إنشاده فيها والقول في رفع الصوت يعني التلاوة أو ما يفيد علم الدين وفي اللفظ كالقول في إنشاد الشعر الذي لا خير فيه‏.‏

باب جامع الترغيب في الصلاة

395- مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنى فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة قال هل علي غيرهن قال لا إلا أن تطوع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيام شهر رمضان قال هل علي غيره قال لا إلا أن تطوع قال وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح الرجل إن صدق ورواه إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحة أن أعرابيا جاء إلى رسول صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال يا رسول الله ماذا فرض الله علي من الصلاة قال الصلوات الخمس إلا أن تطوع قال فأخبرني بما افترض الله علي من الصيام قال صيام شهر رمضان إلا أن تطوع قال أخبرني بما افترض الله علي من الزكاة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فقال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح والله إن صدق أو دخل الجنة والله إن صدق قد ذكرنا في التمهيد أن قوله في هذا الحديث وأبيه منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم وذكرنا إسناده عن إسماعيل بن جعفر من طرق وهذا الأعرابي النجدي هو ضمام بن ثعلبة السعدي من بني سعد بن بكر روى حديثه بن عباس وأبو هريرة وأنس بمعان متفقة وألفاظ متقاربة كلها أكمل من حديث طلحة هذا وقد ذكرناها بطرقها في التمهيد وفيها ذكر الحج وليس ذلك في الحديث من رواية مالك وفي رواية إسماعيل بن جعفر فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام وشرائع الإسلام فيها الحج لا شك فيه وفي هذا الحديث ما يدل على أن وصف الإنسان ببعض ما فيه من خلقته وإن لم تكن محمودة فليس بغيبة إذا لم يقصد الواصف عيبه وفيها أيضا من الفقه ألا فرض من الصلوات إلا خمس وفي ذلك رد قول من زعم أن الوتر واجب وممن ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم وهي الوتر وهذا لا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون زادنا في أعمالنا التي نؤجر عليها فضيلة ونافلة بقوله زادكم وزاد لكم ولم يقل زاد عليكم وما لنا هو خلاف لما علينا ويدل على ذلك قول الله عز وجل ‏(‏حفظوا على الصلوات والصلوة الوسطى ‏)‏ ‏[‏البقرة 238‏]‏‏.‏

ولو كانت ستا لم تكن فيهن وسطا ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر في سفره على راحلته وكان يصلي الفريضة بالأرض وقد مضى هذا المعنى في بابه من هذا الكتاب والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الصلوات خمس كثيرة منها حديث عبادة خمس صلوات كتبهن الله على العباد ومنها حديث أبي هريرة وغيره الصلوات الخمس كمثل نهر الحديث ومنها حديث عوف بن مالك قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلوات الخمس الحديث ومنها حديث بن عباس في وفد عبد القيس وفيه ذكر الصلوات الخمس وقال علي رضي الله عنه الوتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة ولكنها سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا الخبر عنه بذلك فيها سلف من هذا الكتاب وطرقا عنه في التمهيد وفي هذا الحديث أيضا من الفقه أن لا فرض من الصيام إلا شهر رمضان وهذا أمر مجتمع عليه وفيه أن الزكاة فريضة وهو أمر أيضا لا اختلاف في جملته لكن في تفصيله اختلاف كثير سيأتي في أبوابه من هذا الكتاب إن شاء الله وليس في حديث طلحة بن عبيد الله ذكر الحج وذكره بن عباس وأبو هريرة وأنس في حديث ضمام بن ثعلبة وقد ذكرناه بطرقه في التمهيد‏.‏

وأما قوله في حديث مالك فإذا هو يسأل عن الإسلام وفي رواية إسماعيل بن جعفر فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فإن الإسلام بني على خمس رواه بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان وقد ذكرنا خبر بن عمر هذا في التمهيد والعلماء يجمعون على أن أعمدة الدين وأركانه التي بني عليها خمس على ما في حديث بن عمر هذا وهو الدين عند الله الإسلام وسيأتي القول في الإيمان والإسلام وما لعلماء الأمة في ذلك في المذاهب والتنازع في موضعه من هذا الكتاب وذلك قوله صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان إن شاء الله ولا أعلم بهذا المعنى حديثا يخالف حديث بن عمر بني الإسلام على خمس إلا ما جاء عن بن عباس أنه قال عرى الإسلام ثلاث بني الإسلام عليها من ترك منها واحدة فهو حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان ثم قال بن عباس تجده كثير المال ولا يزكي فلا نراه بذلك كافرا ولا يحل بذلك دمه وتجده كثير المال ولا يحج فلا يحل بذلك دمه ولا نراه بذلك كافرا حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي العامري قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا علي بن سعيد قال حدثنا أبو رجاء سعيد بن جعفر البخاري قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن بن عباس قال حماد ولا أظنه إلا رفعه قال عرى الإسلام فذكره وجاء عن حذيفة أنه قال الإسلام ثمانية أسهم الشهادة سهم والصلاة سهم والزكاة سهم وحج البيت سهم وصوم رمضان سهم والجهاد سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم وقد خاب من لا سهل له رواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن حذيفة‏.‏

وأما فرض الجهاد وتقسيمه على التعيين والكفاية فسيأتي في موضعه إن شاء الله‏.‏

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان واجبا فإنه ليس يجري مجرى الخمس التي عليها بني الإسلام لقول الله عز وجل ‏(‏يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا أهتديتم‏)‏ ‏[‏المائدة 105‏]‏‏.‏

ولقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك وروي عن بن مسعود جماعة من الصحابة أن تأويل هذه الآية إذا اختلفت القلوب في آخر الزمان ألبس الناس شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض وكان الهوى متبعا والشح مطاعا وأعجب ذو الرأي برأيه وذكر الدارقطني قال حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن حماد العسكري وقال حدثنا عيسى بن ذكويه قال حدثنا الخليل بن يزيد بمكة قال حدثنا الزبير بن عيسى أبو الحميدي عن هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قيل يا رسول الله متى لا نأمر بالمعروف ولا ننهي عن المنكر قال إذا كان البخل في كباركم والعلم في رذالكم والإدهان في خياركم والملك في صغاركم وقد ذكرت هذا الحديث من طرق في كتاب جامع بيان العلم والحمد لله وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وطائفة أنهم قالوا في قول الله تعالى ‏(‏يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏)‏ ‏[‏المائدة 105‏]‏‏.‏

قالوا أقبلوا على أنفسكم لا يضركم من ضل من غير أهل دينكم إذا أدوا الجزية قال أبو عمر فلهذا قلنا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان فرضا على قدر الطاقة فليس يجري مجرى الخمسة المذكورة في حديث بن عمر لأنها ما لا خلاف في وجوب جملتها وقال من ذهب من أصحابنا وغيرهم إلى أن الحج على الفور لم يكن الحج مفترضا في حين سؤال هذا الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وشرائعه وهذا لا معنى له لأن الأعرابي هو ضمام بن ثعلبة من بني سعد بن بكر وفي خبره من رواية بن عباس وأبي هريرة وأنس ذكر الحج وكان قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما زعم أهل السير سنة خمس من الهجرة وليس من قصر عن حفظ الحج في ذلك الخبر بحجة على من حفظه وقد اختلف في هذه المسألة أصحاب مالك وأصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة على قولين أحدهما على الفور والآخر على التراخي وسنبين أقوالهم ووجوهها في كتاب الحج إن شاء الله وفي قوله عليه السلام لا إلا أن تطوع ندب إلى التطوع كأنه قال ما عليك فرض إلا الخمس ولكن إن تطوعت فهو خير لك وكذلك الصيام والحج والعمرة والجهاد وفي فضائل ذلك كله ما يضيق الكتاب عن مثله وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له أفلح إن صدق بعد قوله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه دليل على أن من أدى فرض الله واجتنب محارم الله عليه من الكبائر فهو في الجنة لأن الصغائر قد وعد الله غفرانها باجتناب الكبائر ووعد عباده المؤمنين إذا آمنوا به وصدقوا المرسلين وأدوا ما افترض الله عليهم واجتنبوا كبائر ما ينهون عنه أن لهم الجنة قال الله تعالى ‏(‏إن تجنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما والله لا يخلف الميعاد‏)‏ ‏[‏النساء 31‏]‏‏.‏

آل عمران 3 أتى رجل إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال له يا أبا عبد الله أشكو إليك أني لا أقدر على قيام الليل فقال له سلمان يا أخي لا تعصي الله بالنهار تستعين على القيام بالليل وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته ألا إن أفضل الفضائل أداء الفرائض واجتناب المحارم‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق فمعناه فاز بالبقاء الدائم في الخير والنعيم وهي الجنة لا يبيد نعيمها والفلاح والبقاء في كلام العرب وهو معنى قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح قال الأضبط بن قريع‏:‏

لكل ضيق من الأمور سعة *** والمسى والصبح لا فلاح معه

أي لا بقاء معه‏:‏

لو كان حي مدرك الفلاح *** أدركه ملاعب الرماح

وقال لبيد‏:‏

أعقلي إن كنت لما تعقلي *** فلقد أفلح من كان عقل

396- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب مكان كل عقدة عليه عليك ليل طويل فارقد ‏(‏فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان‏)‏ الحديث القافية مؤخر الرأس وهو القذال وقافية كل شيء آخره ومنه قيل في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم المقفى لأنه آخر الأنبياء ومنها أخذت قوافي الشعر لأنها أواخر الأبيات‏.‏

وأما عقد الشيطان على قافية رأس بن آدم إذا رقد فلا يوصل إلى كيفية ذلك وأظنه كناية عن جنس الشيطان وتثبيطه للإنسان على قيام الليل وعمل البر وقيل إنها كعقد السحر من قول الله تعالى ‏(‏النفثت في العقد‏)‏ ‏[‏الفلق 4‏]‏‏.‏

وفي هذا الحديث دليل على أن ذكر الله تعالى يطرد به الشيطان بالتلاوة والذكر والأذان مجتمع عليه معلوم ويروى في آخر هذا الحديث انحلت عقدتان كاللتين قبلهما ويروى عقدة ورواية يحيى انحلت عقدة على لفظ الواحدة وقد زعم قوم أن قوله في هذا الحديث أصبح خبيث النفس كسلان معارضة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وغيرها لا يقولن أحدكم خبثت نفسي وليقل لقست نفسي وليس في هذا شيء من المعارضة وإنما في حديث عائشة كراهية لإضافة المرء إلى نفسه لفظه الخبث كما روي عنه إذ سئل عن العقيقة فقال لا أحب العقوق وكأنه كره الاسم وقال لينسك أحدكم عن ابنه وسيأتي القول في هذا الحديث ولفظه في كتاب العقيقة إن شاء الله وحديث أبي هريرة فيه الإخبار عن حال نفس من لم يقم إلى صلاته وضيعها حتى خرج وقتها والله أعلم وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الصلاة فلم ير عليا فأقبل إلى بيته فألقاه نائما فنبهه وأهله وعاتبهما فقال له علي يا رسول الله إنما أرواحنا بيد الله إذا نمنا يرسلها إذا شاء فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما وهو يقول ‏(‏وكان الإنسن اكثر شيء جدلا ‏(‏1‏)‏‏)‏ ‏[‏الكهف 54‏]‏‏.‏

قال أبو عمر أما من كانت عادته القيام إلى صلاته المكتوبة أو إلى نافلته من الليل فغلبته عينه فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه يكتب له أجر صلاته ونومه صدقة عليه وقد قال الله عز وجل ‏(‏الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ‏)‏ ‏[‏الزمر 42‏]‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قبض الله أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا وفي هذا كله القدر البين والمخرج الواسع لمن غلبه نومه عن صلاته وقال له بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك فلم ينكر عليه ولم يبق بعد هذا من معنى هذا الباب إلا أنه ندب في قيام الليل وإلى الاستغفار بالأسحار وأقل أحواله أن يكون ندبا إلى أن يطلع الفجر على المؤمن إلا وقد ذكر الله وتأهب بالوضوء للصلاة‏.‏

كتاب العيدين

باب العمل في غسل العيدين والنداء فيهما والإقامة

لم يذكر مالك رحمه الله في هذا الباب حديثا مسندا ولا مرفوعا ولا مقطوعا وإنما ذكر فيه‏.‏

397- أنه سمع غير واحد من علمائهم يقولون لم يكن في الفطر والأضحى نداء ولا إقامة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم قال مالك وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا‏.‏

398- وذكر عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى فدل على أنه لم يكن عنده في هذا الباب في النداء والإقامة في العيدين حديث مسند ولا مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان لذكره على شرطه في أول كتابه والله أعلم‏.‏

وأما غسله للعيدين فمستحب عند جماعة علماء المدينة كان بن عمر وسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وعبيد الله بن عبد الله يغتسلون ويأمرون بالغسل للعيدين وروي ذلك عن جماعة من علماء أهل الحجاز والعراق والشام منهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعلقمة والحسن وقتادة ومحمد بن سيرين ومجاهد ومكحول واتفق الفقهاء على أنه حسن لمن فعله والطيب يجري عندهم منه ومن جمعهما فهو أفضل وليس غسل العيدين كغسل الجمعة آكد في سبيل السنة وقد مضى القول في غسل الجمعة في موضعه من هذا الكتاب وكذلك يستحب العلماء الاغتسال لدخول مكة وللإحرام والوقوف بعرفة ولكل مجمع ومشهد إلا أن الطيب لا سبيل إليه لمن قد أحرم قال أبو عمر إني لأعجب من رواية أيوب السختياني عن نافع قال ما رأيت عبد الله بن عمر اغتسل للعيد قط كان يبيت بالمسجد ليلة الفطر ثم يغدو منه إذا صلى الصبح إلى المصلى ذكره عبد الرزاق عن معمر عن أيوب قال عبد الرزاق‏.‏

وأخبرنا مالك عن نافع أن بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو قال عبد الرزاق وأنا أفعله قال‏.‏

وأخبرني بن جريج قال أخبرني موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر مثله وزاد ويتطيب‏.‏

وأما النداء والإقامة في العيدين فلا خلاف بين فقهاء الأمصار في أنه لا أذان ولا إقامة في العيدين ولا في شيء من الصلوات المسنونات ولا في شيء من النوافل في التطوع ولا أذان إلا في المكتوبات فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين وجماعة فقهاء المسلمين فمن ذلك حديث عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله وبن عباس قالا لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى ولا يقام قال أبو عمر إنما قالا ذلك لأن بني أمية أحدثوا الأذان ولم يكن يعرفونه قبل قال جابر شهدت النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة وروي ذلك عن جابر من وجوه وكذلك حديث بن عباس مثله أيضا وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد وروى الشعبي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد بغير أذان ولا إقامة وذكر وكيع عن سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم يوم عيد عند دار كثير بن الصلت بغير أذان ولا إقامة وصلى قبل الخطبة وكذلك كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفعلون يصلون العيدين بغير أذان ولا إقامة لا خلاف عنهم في ذلك وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا مروان بن معاوية عن عيسى بن المغيرة قال قلت لأبي وائل أكانوا يؤذنون في الأضحى والفطر قال لا قال‏.‏

وحدثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر والحكم قالا الأذان يوم الأضحى والفطر بدعة قال‏.‏

وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة عن سماك قال رأيت المغيرة بن شعبة والضحاك وزيادا يصلون يوم ا لفطر والأضحى بلا أذان ولا إقامة قال أبو عمر كان هذا بالحجاز والعراق معلوما مجتمعا عليه قبل أن يحدث معاوية الأذان في العيدين وكان أمراؤه وعماله يفعلون ذلك حيث كانوا قال‏.‏

وحدثنا وكيع عن هشام عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال أول من أحدث الأذان في العيدين معاوية قال‏.‏

وحدثنا بن إدريس عن حصين قال أول من أذن في العيد زياد قال‏.‏

وحدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج عن عطاء بن يسار أن بن الزبير سأل بن عباس وكان الذي بينهما حسنا يومئذ فقال لا تؤذن ولا تقم فلما ساء الذي بينهما أذن وأقام قال‏.‏

وحدثنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين قال الأذان في العيد محدث‏.‏